تعد صناديق الدين الخاص نجماً صاعدا في سوق الدين العالمية وفئة أصول واعدة في العالم أجمع، بينما تشق طريقها رويداً رويداً في المنطقة العربية، إذ تواصل تلك الصناديق منذ سنوات قليلة كسب موطئ قدم لها بين فئات الصناديق المختلفة شيئاً فشيئاً، خاصة بين الشركات الصغيرة والمتوسطة، أو بين الأفراد المتعثرين، حيث تعتمد تلك الشركات في الغالب الأعم، على القروض البنكية في التوسع وتنمية أنشطتها الاقتصادية، ومع تضافر العراقيل في وجه إقراض الشركات الصغيرة من جانب البنوك التقليدية، سعت صناديق الدين الخاص لاقتناص الفرصة.
ربما لا تكون البنوك التقليدية في كثير من الأحيان في وضعية تتيح لها توفير رأس المال المطلوب للشركات صغيرة الحجم، بسبب طبيعة التمويل ومفرداته؛ من قبيل فترات الاستحقاق الطويلة، وعدم التقيّد بجدول سداد محدد، وطموح البنوك الجامح في تحقيق عوائد شبيهة بعوائد الأسهم، وعلى هذا المنال، يتأكد لدينا أن هناك فرصة مواتية في الوقت الراهن لتقديم حلول ائتمانية مبتكرة لكل من المستثمرين والمقترضين على حد سواء، ولهذا فإنه من المتوقع أن يتعزز دور صناديق الدين الخاص بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة في ظل تضرر الشركات الصغيرة والمتوسطة من الإغلاق بفعل جائحة فيروس كورونا المستجد، مما أدى إلى توجه بعضها إلى الخروج من السوق وتجميد النشاط، وسط موجة هائلة وعنيفة من تسريح العمال، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعثرها الحتمي في سداد القروض البنكية.
ولأن الحاجة أم الاختراع، فقد بزغ نجم صناديق الدين الخاص عقب تفجر الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ومع كارثة الرهن العقاري في الولايات المتحدة والتي كان من بعض آثارها في جانب الإقراض تحديداً، أن تراجعت أرباح بنك سيتي جروب أكبر البنوك الأمريكية من ناحية القيمة السوقية بنحو 60% في الربع الثالث من عام 2007 نتيجة لاضطرابات الرهون العقارية، كما جمد بنك “بي إن بي باربيا” الفرنسي استثمارات بقيمة 1.6 مليار يورو عندما وجد البنك أن مخاطر الائتمان العقاري في الولايات المتحدة عالية جدا، أما بنك “يو بي إس” أكبر بنك سويسري فقد تراوحت خسائره في أكتوبر 2007 ما بين 600 و800 مليون فرنك (نفس القيمة بالدولار تقريباً) بسبب أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، كما تعرضت صناديق التحوط إلى هزات عنيفة حيث أعلن المصرف الاستثماري الأمريكي “بير ستيرنز” أن اثنين من صناديق التحوط التي يديرها والتي تركز على الرهونات العقارية الثانوية “باتا عديمي القيمة “وأدى ذلك إلى تراجع قيمة الأسهم وارتفاع أسعار السندات الحكومية، فيما خسر المستثمرين في مؤشر صناديق التحوط الخاص ببنك ” كريدي سويس ” ما يزيد على 8 % في أسبوع واحد أي ما يعادل ما حققوه من مكاسب في مجموع ثلاث سنوات.
نظراً لتلك اللدغات الكارثية التي عانتها البنوك من جانب الزبائن المفلسين خلال الأزمة المالية العالمية، اضطرت البنوك إلى تقليص سياسة إقراضها للشركات الصغيرة مع التركيز على قاعدة عملائها من الشركات الكبرى، لتجد الشركات الصغيرة نفسها محرومة تدريجياً من مصدر تمويلها التقليدي، وهنا ظهر دور صناديق الدين الخاص في تلبية هذا الطلب وسدّ الفجوة، وتحقق ذلك عن طريق تحويل استثمارات المستثمرين من شريحة المؤسسات مثل شركات التأمين إلى قروض للشركات الصغيرة، ومع تطوّر السوق، تعدّدت أنواع استراتيجيات الاستثمار هذه من أجل تلبية متطلبات معينة ومحددة .
يتكوّن الجزء الأكبر من هذه السوق من القروض الممتازة وهي القروض المضمونة التي تولِّد عوائد من مدفوعات الفائدة، والقروض الهجينة التي تتألف من أدوات الدين وحقوق الملكية التي تولِّد عوائد من مزيج مدفوعات الفائدة وحوافز الأسهم، بينما تركّز الاستراتيجيات الأخرى مثل الديون المتعثرة والحالات الخاصة على تحقيق عائدات من المكاسب الرأسمالية عبر استرداد الديون في المقام الأول، وقد شهدت صناديق الدين الخاص نمواً متسارعاً خلال الأعوام الأخيرة، ففي عام 2017، بلغ إجمالي الأصول المدارة في صناديق الدين الخاص على مستوى العالم ما يقارب 650 مليار دولار، حيث تمّ جمع 107 مليار دولار في 2017 وحده، ولا يزال تدفّق الأموال الجديدة مستمراً من المستثمرين، مع توقعات تشير إلى أن يصل إجمالي الأصول المدارة إلى 2.5 تريليون دولار خلال الأعوام العشرة المقبلة.
بطبيعة الحال، فإن الأمور ليست وردية في هذه الصناديق دوماً، إذ أن هناك مخاوف ظهرت في السنتين الأخيرتين تجاه دورة الائتمان في هذه السوق؛ إلا أنه بالرغم من ذلك فإن هناك مجالاً كبيراً للاستفادة من الآفاق الواسعة لتلك الصناديق الواعدة، ورغم أن الولايات المتحدة تبقى سوق القروض الأكبر والأكثر تطوراً، فيما تتيح أوروبا فرصاً أكبر وأكثر جاذبية، وفي المقابل تملك السوق الآسيوية العديد من الفرص الواعدة، إلا أن منطقة الخليج، تملك الكثير من الفرص المتاحة في سوق الدين الخاص، لا سيّما وأن قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة في دول مجلس التعاون الخليجي يسهم بحوالي 360 مليار دولار سنوياً، أو قرابة 26٪ من الناتج المحلي الإجمالي، كما تخطط السعودية تحديداً لرفع إسهام المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 35% بحلول 2030 من 20% حالياً.
من المتوقع أن تشهد صناديق الدين الخاص انتعاشه، في ظل النمو المتسارع لقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة لتصل قيمته إلى 920 مليار دولار بحلول عام 2023، على أن يتركز معظم النمو في السعودية والإمارات، إذ تشير معظم الاستبيانات إلى حاجة معظم الشركات الصغيرة والمتوسطة في منطقة الخليج إلى زيادة رأس المال في غضون العامين المقبلين، مما يبرز الحاجة إلى صناديق الدين الخاص كبديل مصرفي جاهز.