الجمعة 10 شوال 1445هـ 19-أبريل-2024م
ADVERTISEMENT

صناديق الكواسر.. واستراتيجية الممانعة

د. خالد رمضان عبد اللطيف

لا شك أن تفشي وباء كورونا المستجد عالمياً سيعزز موقف الدول المدينة عند التفاوض على شروط السداد مع دائنيها، حيث ستجد تلك الدول المتعثرة نفسها مضطرة اضطراراً إلى التمسك بمواقفها، فيما سيكون صندوق النقد الدولي حازما للغاية في الضغط للحصول على خصومات من الدائنين، وهذا الأمر سيضع صناديق الاستثمار التي تتطلع إلى اتخاذ موقف عدواني في أي محادثات مقبلة حول الإعسار في مأزق حقيقي، إذ أن العقبة الكؤود أمامها لن تكون تدهور علاقاتها مع المدينين، وإنما تصور بعض الدول بأن الوباء يمنحهم مزيدا من النفوذ لإرجاء السداد، خاصة في ظل تطور تحولات الوباء المتوقعة من أزمة صحية إلى أزمة إنسانية، إلى أزمة ملاءة مالية.

يصنف مستثمرو “الصناديق الكواسر” على أنهم الأكثر عدوانية تجاه المدينين المتعثرين، إذ يسعون إلى الاستفادة من أزمات الديون من خلال العناد والتهديدات القانونية، والأخطر أنهم لا يتورعون عن افتراس البلدان الفقيرة، عبر شرائهم ديونها المتعثرة، ومن ثم يطلبون سدادها كاملة، حيث تلجأ تلك الصناديق إلى مواجهة مشكلاتها في استرداد الأموال عبر الأسلوب التقليدي المتمثل في شراء دين متعثر بخصم معين، ثم رفض المشاركة في أية عملية لإجراء إعادة هيكلة عامة يتم خلالها شطب قيمة الدين، ويبدؤون مقاضاة قانونية بهدف اقتناص قيمة سداد أعلى.

تعتمد الاستراتيجية الأساسية لتلك الصناديق على “الصمود والممانعة”، إذ ترفض القبول بإعادة هيكلة الديون السيادية، وتهدد بالمطالبة بمبلغ الدين كاملا، وغالباً ما يكون عدد الممانعين ضئيلا، فتختار الدول المدينة في كثير من الأحيان التسديد لهم ببساطة، بدلا من التعامل مع إزعاج معارك قاعات المحاكم التي يحتمل أن تكون طويلة، وهكذا يبدو الأمر وكأنه لعبة كر وفر طويلة من النوع المكلف وغير المؤكد، لكنها تحولت الآن إلى استراتيجية صمود تؤدي إلى تحقيق نتائج مبهرة، كما أنه من الملاحظ أن صناديق الكواسر تتخذ منهجاً أكثر عدائية في التقاضي ضد حكومات البلدان الفقيرة التي ليس لديها خبرة في التقاضي الدولي.

في بداية الألفية الجديدة، وتحديداً في عام 2000 بدأ المستثمرون والاقتصاديون يتنبهون بشدة إلى أنشطة تلك الصناديق، بعدما فرض “إليوت أسوشييتس”، وهو صندوق استثماري مقره في نيويورك، على دولة بيرو، أن تدفع مبلغ 55 مليون دولار، وقد اضطرت الدولة الواقعة غرب أمريكا الجنوبية للدفع رغبة منها في استعادة الاحترام والثقة، للاقتراض ثانية من أسواق رأس المال الدولية حيث قايضت سداد ديون الأقلية من حملة السندات المشاكسين مقابل الحصول على حياة هادئة في أسواق الائتمان الدولية.

استندت الخطوة القانونية المبتكرة لصندوق إليوت على أن بيرو تجاهلت تكافؤ الشروط في عقود السندات، والتي تنص على وجوب معاملة جميع الدائنين على قدم المساواة، وقد سلمت محكمة في بروكسل بذلك، إلا أن بيرو لم تلجأ إلى مرحلة الاستئناف، وقامت بدفع المبلغ، لكن منذ ذلك الوقت، تغير القانون البلجيكي لمنع التكرار، وقدمت الولايات المتحدة حجة قوية في القضية، مجادلة ضد هذا التفسير للمساواة في الشروط بموجب قانون السندات في نيويورك، لكن قانون نيويورك تغير أيضاً في عام 2003، من أجل السماح “بفقرات دعاوى جماعية” في السندات.

اليونان تعد مثالاً آخر في مواجهة النزعة العدوانية للصناديق الكواسر، إذ أنها عندما أعادت هيكلة ديونها في عام 2012، اختارت على مضض السداد التام لمجموعة صغيرة من سندات خارجية تجمعت في صناديق التحوط، بينما اختار آخرون القتال مثل الأرجنتين، التي واجهت أكبر عجز سيادي في التاريخ في عام 2001، اعتماًداً على عدم اليقين بالنتيجة ومدى صعوبة إجبار دولة معينة على الدفع من خلال وسائل الضغط القانونية، إلا أنه في عام 2016، استطاع جاي نيومان من صندوق “إليوت مانجمنت” اقتناص 2.4 مليار دولار من الأرجنتين للشركة، بعد معركة قانونية دامت عقدا من الزمان، مما ألهم الكثيرين لتقليده، إلا أن هذا الأمر سيؤدي إلى تعقيد أزمات ديون الأسواق الناشئة، في الوقت الذي تتشدد فيه شركات الاستثمار الكلاسيكية، مما يهدد بكابوس طويل الأمد للمقرضين والمقترضين.

بالطبع، يدفع مسؤولو تلك الصناديق الاتهامات عنهم بممارسة التنمر على المدينين وخاصة الدول الفقيرة، بأنهم يقومون على سبيل حسن النية بعمليات تفاوضية مع مقترضي أموال مستثمريهم، نيابة عن ملايين الأشخاص وآلاف المستشارين الماليين والمؤسسات، الذين عهدوا إليهم بأموالهم لاستثمارها، ويشدد مسؤولو تلك الصناديق على أنه من غير المحتمل أن يكون مديرو الأصول التقليديون عنيدين أو يميلون للنزاع في المحاكم مثل صندوق إليوت، إلا أنه من الواضح أن سلوك صناديق الممانعين تنطوي على فلسفة تضمن لهم الحصول على مقعد على المائدة، من دون أن يكون لديهم معرفة دقيقة بموعد تناول الطعام، وبالتالي يقاتلون حتى النصر واستنفاذ آخر طلقة.

ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *