الجمعة 19 رمضان 1445هـ 29-مارس-2024م
ADVERTISEMENT

صندوق الاستثمارات العامة يعيد للحوكمة أهميتها وقيمتها

د. محمد آل عباس

من بقي اليوم يجادل في ضرورة وجود الحوكمة الجيدة في أي من المؤسسات؟ ومن بقي اليوم يشكك في قيمها المضافة؟ فالحوكمة ليست عبئا اقتصاديا، بل هي تضيف قيمة للمنشأة من خلال ما ترسله من رسائل الثقة للمستثمرين بأنواعهم كافة وللمؤسسات الرقابية ومؤسسات التصنيف، ذلك أن الحوكمة الجيدة لم تعد تقاس بنشاط الأجهزة الحاكمة، بل بتحقيق النتائج المخطط لها، فالمسألة ليست في عدد أعضاء مجلس الإدارة، ولا عدد اجتماعات المجلس، وليس عدد اللجان التابعة ولا عدد اجتماعاتها، بل هي أساسا في وجود مستهدفات مخططة، وفي تحقيق تلك المستهدفات فعليا، هذا هو جوهر وجود الحوكمة، وهذا هو قلب التنظير المبرر لها والمجادل عنها.

فالحوكمة عندما انتشرت وطالبت بها مؤسسات دولية وجاء قانون ساربينز أوكسلي 2002 ما تبعه من موجة عالمية عاتية لتقنين الحوكمة وترتيبها، كل ذلك كان له هدف واحد فقط، وهو أن توجد لدى المؤسسات المختلفة أدوات تضمن تحقيق الأهداف المنشودة بعدالة، وهذا الذي جعل قانون الشركات البريطاني في تعديلاته 2006 ينظر إلى الحوكمة بطريقة مختلفة تماما، حيث نص على التزامات المديرين وأن يتصرف مدير الشركة بالطريقة التي يعدها تعزز نجاح الشركة لمصلحة أعضائها كلهم، ويضع في الحسبان، “أ” العواقب المحتملة لأي قرار على المدى الطويل. “ب” مصالح موظفي الشركة. “ج” الحاجة إلى تعزيز العلاقات التجارية للشركة مع الموردين والعملاء وغيرهم. “د” تأثير عمليات الشركة في المجتمع والبيئة. “هـ” احتفاظ الشركة بسمعة طيبة لها من خلال معايير عالية لسلوك العمل والتصرف العادل، وهذا ينقل النقاش تماما من مسألة شكليات الحوكمة التي طغت تماما على النقاشات وأوراق العمل كافة التي تراكمت كما الغبار حتى أخفت معالم موضوع الحوكمة وجوهره، فبأي صورة جاءت الحوكمة فعلى مجلس الإدارة والمديرين المسؤولين تحقيق الأهداف المرجوة منها بعيدا عن النقاش الأجوف حول عدد الأعضاء وعدد اللجان، وهذه هي الغاية من الحوكمة وجوهر قيمتها المضافة.

في 2008، نشرت جمعية المحاسبين القانونيين المعتمدين ACCA مقالا بعنوان، “حوكمة الشركات وأزمة الائتمان” Corporate Governance and the Credit Crunch، خلصت إلى أن أزمة الائتمان التي حدثت في ذلك الوقت كانت في الأساس فشلا في الحوكمة وإخفاقا في التنظيم والإشراف، فالبنوك الفاشلة كانت تفتقر إلى الحوكمة وإدارة المخاطر. هذا الأمر جعل المؤسسات الائتمانية والتصنيف الائتماني تضع الحوكمة في حسبانها عند تقييم أي كيان، فالحوكمة – كما أشرت – لم تعد مجرد شكليات قانونية وعددية، وهيكلية، بل هي اليوم ثقافة ومحل نظر عميق، وكما أشارت دراسة جمعية المحاسبين القانونيين المعتمدين ACCA، فالحوكمة وإدارة المخاطر كانت محل الفشل. وفي ورقة استشارية لجمعية ACCA بعنوان، “إيجاد القيمة من خلال الحوكمة .. نحو مساءلة جديدة”، ناقشت فيها تحقيقات اللجنة البرلمانية في المملكة المتحدة في مشكلة الليبور The LIBOR وكيف تم تقييم حوكمة بنك باركليز على أنها الأفضل، ومع ذلك انتهت تلك الحوكمة الشكلية والهياكل المعقدة إلى فضيحة، وهذا قاد إلى نتيجة مفادها أن هناك ما هو أكثر من الحوكمة وأكثر من مجرد الامتثال لأحكام حوكمة الشركات، ففي حين أن معظم الشركات الكبيرة خاصة تمتثل تماما لنصوص الحوكمة، فمن الصعب معرفة ما إذا كانت تلتزم بروحها فعليا.

وأوضحت تحقيقات فضيحة بنك باركليز أن نظام الحوكمة الذي يتضمن رئيسا منفصلا ورئيسا تنفيذيا وعديدا من المديرين المستقلين غير التنفيذيين كمعالجة لمشكلة السلطة المفرطة في يد فرد واحد، قد يؤدي فعليا إلى نتيجة غير مقصودة: فمفادها أنه يصبح من الصعب تحميل أي شخص المسؤولية عندما تسوء الأمور. بالتأكيد لم تتم مساءلة أي شخص مع فضيحة بحجم “باكليز”. لهذا فإن الحوكمة بقدر ما هي مهمة جدا وهناك عديد من القواعد في ترتيباتها، فإن الأصل يبقى في القيادة وروح العمل الجماعي وتحديد الأهداف بشكل جيد وتنفيذها بشكل مسؤول بعيدا عن الشكليات القانونية. وهذه الحوكمة الحقيقية بهذا الوضع هي التي تظهر بصورة جلية في شكل قيمة مضافة لأي مؤسسة، وما حققه صندوق الاستثمارات العامة من ترتيب متقدم لدى مؤسسات التصنيف العالمية، وعلى الأخص وكالة موديز، عن حوكمة الصندوق، يقدم حالة دراسة يجب الاسترشاد بها عند تدريس الطلاب والمتدربين والمهتمين بالحوكمة.

وحاز صندوق الاستثمارات نتائج مرتفعة في التصنيف الائتماني من وكالتي موديز وفيتش للتصنيف الائتماني، وهذا ليس غريبا على صندوق سيادي بهذا الحجم وهذه الأهمية الاقتصادية التي أولاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، له، وتم تعيين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، رئيسا لمجلس إدارة الصندوق. فهذا الاهتمام وهذه القيادة بحد ذاتها تمثل جدارة ائتمانية للصندوق، فإذا أضفنا إلى ذلك جودة محفظته الاستثمارية ليكون أحد ممكنات تحقيق رؤية المملكة 2030، فإن منح الصندوق تصنيفا مصدرا عند “A1″، من وكالة موديز وتصنيفا ائتمانيا حسب بطاقة التقييم الخاصة بـ”موديز” عند “Aa2″، مع نظرة مستقبلية مستقرة، وكذلك منحه تصنيفا مصدرا طويل الأجل عند “A”، مع نظرة مستقبلية مستقرة من وكالة فيتش للتصنيف، يعد نتيجة منطقية. ومع ذلك، فإن تقرير “موديز” أكد نجاح سياسات الحوكمة التي يطبقها الصندوق، وتمثيله في مجالس إدارات الشركات التابعة له، ومشاركته في وضع السياسات المالية لهذه الشركات. إضافة إلى تطبيق معايير حوكمة الصندوق ومراجعته من قبل خمس لجان على مستوى الإدارة التي تركز على الاستثمارات والمخاطر والسيولة.

هذه الإشارة من تقرير المؤسسة الائتمانية كأحد أهم الأسباب التي جعلتها تمنح صندوق الاستثمارات العامة هذه الجدارة الائتمانية هي التطبيق العملي المباشر لمعنى الحوكمة الجيدة، وهو المقصود بالقيمة المضافة للحوكمة، فبينما تعمل مؤسسات عالمية كبرى على استخدام الحوكمة لارتكاب المخالفات والتهرب من المسؤوليات تأتي تجربة الصندوق لتعيد للحوكمة أهميتها وقيمتها وتأثيرها ومصداقيتها.

نقلا عن الاقتصادية

ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *